اللهفة الاستحواذية
الاشتهاءات التي لا تتوقف عن الإلحاح
في إحدى تجارب والتر ميشيل، مشهد لغرفة دافئة، بها طاولة خشبية وكرسي صغير. جلس عليه أحد الأطفال بعينين واسعتين، حدَّق بهما بكل توقٍ، ولعابٍ سائلٍ نحو قطعة مارشميلو ناصعة البياض، هشة، طرية، موضوعة أمامه! لم يكن هذا الطفل يعلم أنه بعد ثوانٍ فقط سيدخل في صفقة مع الشيطان! مفاوضة قادمة من صوت أبوي حنون قريب من مستوى جلسته:
"يمكنك أكل المارشميلو الآن إن أردت، ولكن... إذا انتظرت خمس عشرة دقيقة دون أن تلمسها، ستحصل على واحدة أخرى، مكافأة لصبرك."
كان هذا صوت والتر ميشيل عالم النفس السلوكي الذي اختبر به إرادة ليس هذا الطفل فقط، إنما مجموعة من الأطفال البريئين أمام قطعة من الحلوى! يروي لنا والتر فيما بعد أن ثمة أطفالًا صبروا، وآخرين حاولوا الانتظار مستخدمين تشتيت أنفسهم، وأغلبية باعت أنفسها للإشباع الفوري واللهفة!
بعد سنوات، يتتبع والتر وعلمائه هؤلاء الأطفال. ويجدون أن أولئك الذين تحلّوا بالصبر، الذين واجهوا إغراء اللذة المؤقتة وإلحاح تلك اللحظة وتمسكوا بمكسب الانتظار الأكبر أصبحوا أكثر نجاحًا في حياتهم. تفوقوا في دراستهم، امتلكوا علاقات أفضل، وحتى صحتهم كانت أقوى. أما الذين تسرعوا، الذين التهموا المارشميلو دون انتظار، واجهوا الحياة بصعوبات في الانضباط، تتعلق بقراراتهم اليومية، وتحقيق أحلامهم.
“ كلنا أطفال عفى عليهم الزمان “
- تولستوي
الإشباع الفوري
في نظرية التحليل التفاعلي (TransactionalAnalysis) يشرح لنا إيريك بيرن أن ردود الأفعال والتصرفات التي تصدر منا تجاه الأشياء تنطلق من ثلاث حالات نتمثلها: حالة نكون فيها في دور الآباء، وذلك عندما نملك تلك الوصاية السلطوية والعارضة على الناس وما يشملها من سلوكيات مصاحبة نفعلها تلقائيًا في حياتنا اليومية، مثل الانتقاد عامة والتعليقات وإصدار الأوامر سواء للأصدقاء أو شريك الحياة أو الزملاء في العمل وحالة نكون فيها أطفالًا، حينما تسودنا الفضولية تجاه الأشياء والتعلق بالعلائق، والانزعاجات الهشة، والتلهف الدائم تجاه الشراء وأفعال المشاهدة وتلبية الرغبات وما يصحبها من متعلقات مشابهة.
أما الثالثة، فهي حالة ناضجة يحكمها صوت متزن قادر على ضبط نفسه، يسميه حالة "البالغ".
تنبهت مؤخرًا أنه في هذا الزمان الغابر، كثيرًا ما نقاتل في الحياة بانفعالات الأطفال الصغار. أفكر في بعض التصرفات العارضة لبعض الأشخاص الكبار، ويستوي لي تمامًا أن بعض هذه التصرفات تنبع من طفلهم الداخلي القديم الخائف واللحوح، طفل لم يكبر بعد على مهارة التأني، الصبر، وتأجيل الإشباعات.
نتلبس أحيانًا تمثيلنا النفسي الطفولي والقديم. لا يعرف الأطفال، عمومًا، سوى لغة إرضاء الرغبات، وثدي حاضر يتوفر طوال الوقت ليسد رمق كل لهفة أو تعطش. { وكان الإنسان عجولا }
أقول إذا فكر الإنسان منا بجرد واعي يقظ لمجموع تصرفاته ومشكلاته خلال هذا الأسبوع فقط ، ينكشف له العجب من تلك الطفولة المتلهفة التي دائمًا ما تحضر خلف المواقف.
يروي لنا « فرويد » في كلاسيكيته القديمة أن التعافي النفسي والإنضباط لا يحدثان إلا بمفاوضة ناضجة مع ما يسميه فرويد « الهو » مفاوضة يعرف فيها الإنسان مع الوقت والخبرة والتمرس ، أن يراوغ في كل مرة ذلك الجانب الذي يسكن كلاً منا ويمتلك صفات معينة مثل الميل الطبيعي تجاه الفوضى والعشوءة وتأجيل الواجبات والكسل ولفت الإنتباه وشرور الأطفال الصغيرة والوضيعة!
أوكلما اشتهيت اشتريت؟
في الأدبيات الإسلامية قصة حكيمة؛ أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رأى أحد أبنائه يبتاع شيئًا، فسأله: "ما هذا؟" ليجيبه الآخر: "إنه لحم."
ليرميه عمر بن الخطاب بعبارة تصير دستورًا فيما بعد، عبارة تُنبهنا لضرورة التفكر في فصل منابع اللهفة من وصالات التلبية والتنفيذ الفوري.
: « أوكلما اشتهيت اشتريت؟ »
والناظر في الأمر ، يرى أن هذا الأمر يشمل بصور مختلفة كل إثارة في الحياة تستفز فينا الاستجابة السريعة
ربما قد تكون تلك المعارك الجانبية تحرضنا على رد أحيانًا ، كل مقطع يقفز لشاشاتنا ، كل إعلان يزرع فينا لهفة الابتضاع وإلخ
التمهل: يردع نوازع اللهفة
"سرّ القوة ليس في الانقضاض، بل في القدرة على التأجيل."
– فريدريك نيتشه
إن في مهارة الـ PAUSE والتمهّل كمّاً هائلاً من النضج الانفعالي والنمو الوجداني، وكأنها حاوية خفية تحتفظ بكل هذا العمق الداخلي الذي يوشك على الإنفجار. أن تتقن التمهل، يعني أن تتمكن – قدر المستطاع – من الحفاظ في كل مرة على هذه المسافة الهادئة بينك وبين كل ما يثيرك، بين الانفعال ورد الفعل، لأطول وقت ممكن.
بعبارة أخرى: أن تُحسن إدارة ردود أفعالك بأن تخلق زمناً فاصلاً بين ما تشعر به وما تقوم به، أن تؤجل اندفاعك، أن تؤخّر الاستجابة الفورية للمثير في المرة القادمة، أن تُبطئ قليلاً قبل أن تفعل، قبل أن تقول، قبل أن تقرر.
وأن تكبح جماح نزعة الإشباع الفوري instant gratification، بكل صورها المتخفّية والمتغيّرة.
مثال : إذا أتتك مثلاً لهفة عارضة أو فوران لا يقاوم تجاه شيء معين في اللحظة الآنية ، تقول لنفسك وأنت تخادعها
حسنًا سألبي هذا النداء ، لكن ليس الآن ربما غدًا مساءً ، ربنا بعد ساعتان ، هذا الخداع القصير للعقل والشهوة يمنح فاصلاً زمنية واستراحة مؤقتة تكفل بإخماد أي اشتعال يسود بؤرة الشعور
القدرة على التأجيل جوهر أي تعافي
يقول الرسول عليه الصلاة والسلام "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب"، لأنه تريّث، واستعاد أنفاسه من بين فورة الانفعال، ولم يُسلم نفسه للفعل التلقائي، ولم يختزل ردّه في لحظة غضب سريعة!
فليس كل ما نشعر به يجب أن يُقال على الفور،ولا كل رغبة تعتمل في داخلنا تستحق الإشباع الفوري،ولا كل فكرة تخطر في البال يجب أن تتحول مباشرة إلى استنتاج أو رد فعل أو سلوك واقعي.
بل على كل شعور، وكل فكرة، وكل رغبة، أن تمر أولاً في مصفاة الوعي، وفلاتر، في دورة محاسبة داخلية، حيث يقول علم النفس أن اي سطوة شديدة حينها تخمد ، يتم تصفيتها، وتنقيتها، وتأملها، قبل أن تتحوّل إلى فعل في الواقع. ذلك هو التمهّل: وعيٌ مؤجل، وردة فعل متزنة، وقرار أخير ناضج.
المُدخلات : آلة تضخيم اللهفات
ينمو أيّ تلهّف لا يُقاوم في بيئة المُدخلات التي تحيط بها حواسك؛ أي كل ما تراه، وتسمعه، وتقرأه. أي محتوى تتعرض له باستمرار يصنع بداخلك لهفة لا واعية، تظل تتفاقم مع كل تعرض. لذلك، كقاعدة عامة، لا يمكن التحرر من أيّ تلهّف إلا بحمية إقصائية Elimination diet
تعزل فيها حواسك عن أي مثيرات تحمل بداخلها قنابل موقوتة.
احترم مناطق ضعفك التي تنهزم أمامها جيدًا، وارحم حواسك.
لا يمكنك أن تُقلع وزجاجة الخمر لا تزال في جيبك
وثمة مسألة أخرى يجب الإنتباه لها جيدًا ⚠️
هنالك مبدأ نفسي لطيف في العلاج النفسي يُدعى HALT، يشير إلى أن الإنسان حين يجتمع عليه أحد أربعة مشاعر: الجوع، الغضب، الوحدة، أو التعب، فإن قلبه يصبح أكثر عُرضة للانجذاب واللهفة. في هذه اللحظات الهشة، تكبر الرغبات في داخله، ويصبح أي تلهّف أشبه بنداءٍ يصعب تجاهله، كأن النفس حينها تبحث عن سدّ فراغٍ أو تضميد ضعفٍ، بأي شيء يُسكِتها، ولو للحظة.
كلمة ختامية
الإقصاء، والتأخّر، والتروّي أشياء تليق دائمًا بالإنسان، وتحفظ في كل الأحوال والنهايات ماء وجهه.
والعجلة من الندامة، ولا تسوء إلا صاحبها، وتأخذه في نهاية القصة إلى عالم من التفريطات؛ يفرّط في كل شيء، ويتماهى بكُلّه، تخدعه الخيالات والاشتهاءات، ومعزوفات الممكنات، ويقابلها بالاستجابات، لأنه يفكّر فقط في "حالًا والآن".
لذلك، كان أحكمَ ما يفعله الإنسان: مراقبة نفسه بالإمساك، والإحكام، وتصفية أجوائه، وإغلاق ثغراته
ولله الموفّق والمستعان.






كلمات جاءت في وقتها ، لمستني الكثير من العبارات في هذا المقال المكتوب بطريقة متميزة.
ألهمني هذا المقال لتغيير خلفية هاتفي لعبارة "أوكلما اشتهيت اشتريت"
أتطلع لمقالاتك القادمة ✨
اهنيك على هذه المقاله الجميله