في محاورة تلفزيونية، تسأل المذيعة (ليبرون چيمس) عمّا إذا كان هناك شيء يود بحب لو يعرفه عنه الجمهور، لم يلبث ليبرون ثانية واحدة تقريبًا حتى جاء جوابه الحاد: Nothing, fuck them
“لا يمكن لأحد أن يدير أوركسترا دون أن يعطي ظهره للجمهور.”
- جيمس كروك
القبول الأول
يروي علم النفس أن الطفل في سنواته الأولى لا يكتشف العالم وحده، بل يحتاج إلى وسيط Transitional Object / Figure يرى من خلاله الوجود، ويتعرف به على نفسه ومدى صوابية ما يفعله. هذا الوسيط، بطبيعة الحال، هو الأم والأب.
تأخذ الأم في البداية جانب الغذاء مرورًا بمخرجاته، تمده بالحياة والعناية. ومع مرور الوقت يكبر الطفل، وتتوسع حاجته من الإشباع البيولوجي إلى الإشباع النفسي، وتظل فكرة الإشباع ثابتة عمومًا ومتصلة بوالديه. نراه في هذه المرحلة يتحسس الوجود وهو يلتفت إليهما في كل خطوة، : هل ما أفعله آمن؟ هل هو صحيح؟ هل أنا محبوب؟ هل يمكن أن أفعله؟ ويحتاج بهذا الى ان ينظر لأبواه قبل كل فعل حتى يطمئن لموافقتهما.
ولهذا، حينما نكون في تجمعات عائلية، نرى الأطفال يقفزون ويتشقلبون بحركات بهلوانية، ليجذبوا أنظار آبائهم وأمهاتهم. في محاولة خفية لانتزاع قبولهم الضمني واعترافهم المؤقت. تسمعهم يصرخون بفرح وتوق للأنظار: “ماما، ماما، شوفي! شوفيني…”
في هذه المرحلة العمرية، لا يشعر الأطفال بالاتصال الكلي بالذات أو بالوجود مباشرة، إلا بموافقات أولى من الجهات العليا، تحمل اختام القبول والمباركة، فتمنح الطفل وقتها شعورًا بالأمان والتقدير، وتؤكد له أنه موجود ومحبوب وما يفعله صواب.
تنامي الرغبة في القبول والتقدير
بعض الأطفال سيحظون بكفايتهم من التوجيه والانتباه والإعجاب والقبول، بينما سيكبر آخرون باحتياج غير مسدّد؛ احتياج سيظلوا إلى الأبد في محاولة لإشباعه، عبر تدوير العلاقات، أو الانهماك في تحصيل النجاحات، أو سلوكيات الظهور الهستيرية، وغيرها من أشكال انتزاع الاعتراف والتقدير. حاجة فطرية أولى ستتحول عند البعض فيما بعد إلى هوس، ستغذّيه بشدة أدوات العالم الحديث وعوالم السوشيال ميديا من دوائر ستوريز ولايكات وتفاعلات.
لهفة أن نكون مرئيين
في رواية (هكذا كانت الوحدة) للكاتب الأسباني خوان خوسيه مياس، تعيش إيلينا شعورًا قاسيًا بالبرود من زوجها، فراغًا عاطفيًا يفتقد إلى القبول والحب والاعتراف. تشك ايلينا في خيانة زوجها، فتستأجر محققًا يلاحق خطواته ليكتب لها كل مساء تقريرًا عمّا يراه. لكن التحوّل الغريب يحدث حين تطلب ايلينا من المحقق نفسه في لحظة ما أن يوجّه عينيه نحوها، لتصير هي موضوع المراقبة، وتنتظر تقاريره كما لو كانت تبحث عن مرآة خارجية تكشف لها نفسها، وتبحث فيها عن اعتراف بالقبول والوجود.
ولمّا كانت الرغبة في القبول وتحصيل الانتباه والاعتراف من الآخرين طبيعةً إنسانيةً في الإنسان، فإننا نجد القرآن الكريم يخاطب الصحابة الكرام بخطاب نفساني ذكي يعلم فيه دواخل الإنسان وحاجته الفطرية إلى ذلك، يخاطبهم فيه بأن كل ما يصنعونه من خير سيكون مشهود ومرئي من الله ورسوله والمؤمنون، ويا له من تشريف وتحفيز عظيم:
﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾
“جميع الناس بحاجة الى عيون تراهم”
- ميلان كونديرا
العقلية الشوفانية
لكن هذا الميل الطبيعي في السعي لتقدير الآخرين، يصبح إشكالًا كبيرًا حينما يتحول عند البعض إلى حاجة قهرية متطرفة، دائمة التعطش للقبول والاعتراف والاستحسان من قبل الآخرين. درجة من التشويش واللوثة سيتحول فيها عقل أي إنسان إلى طبيعة شوفانية، معناها الدارجي والمُلازم (شوفوني)، هدفها المشترك دائمًا: (محاولة الشعور بالقيمة). سيتقدم فيها دور الآخرين عندهم من الناس إلى المتحكم الرئيسي في مشاعرهم وإلى المركز والمآل.
في هذه الدرجة، سيستمد الإنسان، دون أن يشعر، تصوره ورضاه عن نفسه من نظرات الآخرين وتفاعلاتهم، فيصبح إمّا دائم القلق منها، أو إمّا دائم التشكيك بنفسه، او دائم الاحتياج لنظراتهم أو ما يلي ذلك من الانشغال المستمر بقضية ما سيظنه/يظنه الآخرون عنه، بالاكتراث الحساس جدًا لآرائهم ونظراتهم.
ويتحول بعض الناس في أواخر هذه المحطة – بما يصفه علم النفس (بالإرضائيين People Pleasers) – وهم أناس سيغلقون ذواتهم وسيذيبون حدودهم، وسيفعلون ما هو أكثر من اللازم والمعقول من تضحيات على حساب أرواحهم وعمل لساعات متأخرة وتنازلات كبرى وغيرها، حتى ينالوا رضا الناس والفوز بقبولهم والظفر بإستحساناتهم.
للحرية ثمن وهو أن لا تكون محبوب أحيانًا
- شوبنهاور
القيمة المستمدة من الخارج لا يُعول عليها
من القواعد النفسية الهامة في التعافي، والتي يحتاج لمعرفتها ممن يعانوا من هذا المأزق الوجودي، أن أي قيمة داخلية تشعر بها كإنسان وتكون مستمدة من الخارج – من إعجابات الناس، أو قبولهم، أو لايكاتهم أو اعترافاتهم إلخ .. لن تكون في لحظة ما مشبعة أبدًا، مهما تعاظمت وتكاثرت ومهما حاولت أن تتحصل بدورك على كميات منها، لأن القيمة القادمة من الخارج دائمًا مؤقتة وزائفة. كونها لا تنبع من ذاتك الأصيلة أو من نفسك الحقيقية، لذلك فهذا السعي الحثيث لإرضاء الناس طوال الوقت والاهتمام المفرط بنظراتهم وتحصيل قبولهم لا يحتاج، في كل الأحوال، هذا القدر من اللهاث وراءه أو الخوف من فقدانه، لأنه في حقيقته المتجذرة زائف وغير مُشبع أبدًا. كما ان البشر نفسهم متقلبيين ومزاجيين ولا يُعول على دعمهم واراءهم. ومن كان أسيرًا للناس فهو أسير لأهوائهم المتقلبة حياله.
“من عرف الناس استراح فلا يطرب لمدحهم ولا يجزع لذمهم فإنهم سريعوا الرضا سريعوا السخط والهوى يحركهم”
- الفضيل بن العياض
التخلي عن الحاجة القهرية للقبول والاستحسان، وإثبات أنفسنا للآخرين.
في كتابه Total Self Confidence، يجادل دكتور أنتوني روبنز أنَّنا، عندما نترك حاجتنا الملحة للقبول والاستحسان أو ذلك الاهتمام المفرط بكيف نبدو في عيون الناس، فإنَّ محاولاتنا الفاشلة لن تهمنا أبدًا طالما أننا نفكر فقط في أهدافنا وليس فيما يظنه الناس.
هذه الحالة من التحرر من الناس، أو الانقطاع عن الطمع في الخلق كما يسميها الإمام ابو حامد الغزالي، تخلق درجة من الحرية تجعل خطواتنا دائمًا أخف لأنها ستخلوا وقتها من أعباء الإثبات.
“ادفن وجودك فى أرض الخمول فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه”
- بن عطاء الله السكندري
الإكتفاء بما نعلمه عن أنفسنا وبمن يحبوننا.
ولعل من اجمل ابيات الشعر التي احبها بيت أبي العيناء
إذا رضيت عني كرام عشيرتي *** فلازال غضبانًا علي لئامها
يحدثنا فيه أبي العيناء بصدق، أنه لا يأبه للآخرين من الناس طالما أنه على درجة من الكفاف ممن يهتم لأمرهم من سادة قومه ويحبهم ويحبونه.
تنبه [بريانا ويست] قراءهاعلى هذا المعنى في كتابها You Are the Mountain ، أن الكثيرين من الناس يهدرون طاقاتهم النفسية بالإنشغال طوال الوقت في السعي وراء إعجاب الغرباء ممن لا يأبهون بهم، بينما يكمن السر الحقيقي ونقطة التحول حسب توصيف بريانا، في الإستراحة والثقة، بتوجيه الامتنان والانتباه نحو اولئك الذين يحبوننا بالفعل ولا نحتاج في وجودهم أن نتجمل، كما أنها تنصح أن نأخذ منهم دائمًا حقيقتنا ونعيد توظيفها بطريقة نهائية تغلق باب هذا التسول للآخرين.
ويكون السؤال هنا متى آخر مرة شعرت معها أن لديك بالفعل من يحبونك؟
“لا يوجد اخطر من انسان ليس لديه ما يريده من العالم”.
صيام الفالديشن واستعادة الأصالة
الانغماس في تلك الحالة من اللهاث وراء قبول الآخرين بسلوكاتيه المتخفية يجعل الشخص، بعد التكرار، يخسر أصالته، فيتحول إلى ذات مخوخة selfless تختفي ملامحها وتفعل فقط ما يريده الجمهور وما يطلبه المستمعون. متلازمة سيخسر بعدها معناه الخاص واتصاله برغباته الحقيقية، ليتنازل عنها إمَّا بطرق إرضاء الجمهور ومواكبتهم بالتماهي الشديد معهم، أو بالخوف الشديد منهم ، وهنا يضيع الإنسان ويفقد نفسه في الحشود كما كان يُحذر سينيكا.
“ما فائدة الربح لو كسب الانسان العالم وخسر نفسه”.
كلمة ختامية
كن دائمًا على وعي بسلوكياتك المتوغلة، تلك التي تفعلها دون شعور، في محاولة لتحصيل انتباه الآخرين وانتزاع اعترافاتهم. توقف عن ممارسة كل ما يعزز وجود شخصيتك الأرضائية للآخرين والمتطلعة للأنظارهم. اتصل برغباتك الحقيقية وحاول أن تكون نفسك باستمرار لا ما يريده العالم، وافعل ما يقتضيه ذلك لفترة طويلة وجازف بالظهور والنشر والتواجد بكل أشكال الممارسة التي تؤكد حضورك المحض، حتى تستعيد أصالتك بالتكرار، دون الاكتراث لما سيظنه عنك الآخرون. سيكون الأمر غريبًا ومخيفًا في البداية، لكنه كل ما تحتاج. لا تعملق الآخرين أكثر من اللازم، فهم لا يملكون ضرًا ولا نفعًا، ولا حياة ولا نشورًا.
وأخيراً، من الضروري أن تصل لصيغة نهائية وصورة ختامية معتدلة ترى بها نفسك وتقبل ذاتك عليها؛ فالشخص المليء بعلامات الاستفهام حيال ذاته، والذي لا يعرف ماهية ما هو عليه وما يفعله، ستملأ آراء الآخرين العابرة فيه تلك الفراغات، وسيغلب جهل الناس علمه بنفسه، وسيحتاج دومًا لقبولهم وأن يتحسس ذاته من خلالهم.
ولله الموفق والمستعان.
ختامية المقال ذكرتني
"مَاذَا يفيدك إن حظيت بِوُدِّهِم
وخسرت نَفسَكَ والحَياةَ جَميعَا"
مقال رائع