الكمالية الملعونة: الكمالُ الذي يُعكِّرُ اللحظةَ ويأكلُ الإكمال
حينما تصبحُ الكماليةُ شهوةً تُؤجِّل الحياةَ، وتُفقِدُنا طعومَ الأشياءِ.
في قصص الحكيم أوسيب، كان في يومٍ من الأيام هنالك فتاة فقيرة، لا تملك سوى إناءٍ به حليب وضعته فوق رأسها. وفي طريقها إلى السوق، فكرت بأنها ستبيع الحليب، وتشتري بثمنه دجاجًا، وسيبيض الدجاج، وستبيع البيض، وستشتري فستانًا، وسيتقدم الرجال لخطبتها، وحينها سترفض. وهنا انكسر إناء الحليب.
أحبُّ تَدويرَ هذه القصة دوماً، لأنَّ فحواها يُعيدنا إلى النزوع الإنساني المشترك، الشارد من اللحظة الآنية، والمتلهف دومًا للحظة كمالية بعيدة، مناسبة ومواتية؛ تزرقُّ فيها البحار، وتخضرُّ فيها الأشجار، يُحقِّق الإنسان المسكين منا فيها ثأره وثراءه السريع، ويذاكر فيها لامتحاناته من يوم السبت القادم على نظافة، ويبدأ فيها العمل على مشروعه المفضَّل وحلمه المؤجل برواق. دائماً ما يكون الأمر أيُّ لحظةٍ عدا هذه اللحظة اللعينة الراهنة!
تقول الباحثة النفسية "رينيه بروان" أنَّ ثمة رابطةً بين النزعة الكمالية والتسويف، تأخذنا الكمالية بمعزوفات من أحلام اليقظة والوعود الكاذبة تنتهي بنا دومًا إلى تأجيل.
أتدري كيف يُسرق عمر المرء منه؟ يُذهل عن يومه في ارتقاب غده، ولا يزال كذلك حتّى ينقضي أجله، ويده صِفرٌ من أي خير!
- محمد الغزالي
الكمالية تُجرَّدنا من حماسة اللحظة
"أول ما تتسلل به النزعة الكمالية عمومًا، تفريغ الإنسان من ممكناته في اللحظة الآنية، devaluing the current moment عن طريق الحطِّ من بركتها الراهنة وما تحمله من مساحة واسعة للبدء والفعل والتغيير، بجعلها شائهةً لا تصلح كنقطة تفعيل أو انطلاق. بتعريف آخر الكمالية، هي تلك الأصوات التي تهمس لنا مراتٍ أنَّ الآن ليس اللحظة المناسبة، وأنَّ اليوم ليس هو الاختيار الأمثل.
تلعب معنا، للتدعيم سيطرتها وترجيح إلحاحها، ألاعيبَ مختلفةً تقودها مداخلَ شتَّى، منها ما يُعرف عند النفسانيين بـ"الانتباه السلبي التلقائي"
(biased negative attention)، حيث تجعلنا نركِّز الانتباه على ما هو غير مرتب، ومملوء بالفوضوية، وعشوائي، وغير مجدٍ للبدء في طبيعة اللحظة. أخطر ما تفعله الكمالية في رأيي عندما تجعلنا نفقد بصورة لاواعية اتصالنا بحماسة اللحظة، عن طريق ملئنا بالنفور منها، والخوف، والقلق، والاضطراب، بجعلها مُعكَّرة وغير صالحة لأي متنفس يروق للبدء."
«حسرة الأمور الماضية وتدبير الآتية البعيدة قد ذهبت ببركة ساعتك هذة »
- شفيق البلخي
في تأريخ مشابه، يروي لنا القرآن قصص منافقين وأقوام وقعوا في فخ لحظات بدت لهم غير محببة: [كَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ ۗ].
ومن النقولات النفيسة كذلك عن الجناب النبوي أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان دائمًا ما ينبه صحابته أن لا يحقر أحدهم من المعروف شيئًا إذا أراده في أي لحظة، وكان دائمًا ما يُخبرهم ويذكرهم حبيبنا ونبينا أن جميع اللحظات مباركة ومُحتسَبة، وأنَّ ما هلك من الأقوام من هلك إلا بالتسويف وإرجاء اللحظات. كما يوصيهم في حديث آخر له مهم
(إذا قامت الساعة، وفي يد أحدكم فسيلة، فليغرسها)
الحل دائمًا وأبدًا ببساطة أن تبدأ هنا والآن بما هو متاح ومتوفر، أو كما يعبر عنها ابن الرومي: بمجرد أن تبدأ الرحلة سيظهر الطريق.
ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
Motion creates emotion
الوعود الزائفة للكمالية
من مثالب الأشياء المسكونة داخل البنية الكمالية، والتي تتسلل إلينا بها على الدوام، وعودُها الزائفة والرنامة. تقدِّم لنا الكمالية دائمًا خيالاتٍ وتشويق لبديلٍ منمَّقٍ ومرتبٍ، يكون دائماً أكثر إثارة مما نملك، لتثنينا عن حال البدء الجاهز الآن. تخبرنا دائمًا أن العشب سيكون أكثر خضارًا على الجانب الأخضر البعيد، وتأخذ تركيزنا دائمًا إلى ما هو أبعد مما نملك الآن
لأن هذا هو ما تريد؛ أن تأخذ قضايانا، التي يُفترض أن نتعجل بها، إلى استئنافاتٍ بعيدة. وهي بذلك تجمِّل لنا في كل مرة الوعود وتزيِّن الموعود، وتخلق لنا أحيانًا قصةً وسيناريو يكون بطله الغد، وكل الأمور فيه من حولنا مثالية. تقنعنا بأن نبدأ من هناك، أو الأسبوع القادم، أو عندما نتحصل على الشيء الفلاني، أو عندما يتسع المجال لكذا."
"الإشكال في هذه اللعبة هو أنها تضع الإنسان في مأزق العصا والحمار والجزرة، لينتهي به الحال في مصيدة التسويف وشلل الانتظار لتلك اللحظة التي قد تغيِّر كل شيء. لكن الحقيقة الفارقة هي أنه لا توجد لحظة مثالية؛ فالساعة السابعة تمامًا كالساعة السادسة والثلاث والعشرون.
عندنا تجد نفسك في حالة من التقاعس والشلل والتسويف ، اسال نفسك : ما وعود كماليتك في هذه اللحظة؟ ، بأي حال تعدك! ركز أن تُميز دائمًا الأصوات القادمة من منابع الكمالية!
نظارات الكمالية ساخطة ومقلوبة للداخل!
من الأشياء المتخفية التي تتنكر بها آلية التفكير الكمالية، والتي تحتاج منا إلى انتباه يقظ، أنها في الأساس غير عادلة، وتفتقر إلى أي معيارية داخلها، لأن ميزانها مختل. سأشرح لكم كيف:
تخيل معي ميزانًا به كفتان: كفة نضع فيها الأشياء، وكفة أخرى بها وزن معروف نقيس به حجم ما نضعه! في العقلية الكمالية، هذا الوزن المعروف في الاتجاه الآخر يكون على الدوام (إلى ما لا نهاية).
حسنًا، ما هو موضع الإشكال؟ الإشكال أن كل ما نضعه في الميزان من مظهر خارجي أو قيمة أو عمل يصبح بلا وزن أو قيمة مقارنة باللانهاية المغروسة بشكل خفي دائمًا في حياتنا. يُفسر هذا الأمر حالة الخواء وعدم الاكتفاء التي يشعر بها الكماليون دائمًا؛ فهم مهما قدموا أو ظهروا، يشعرون بأنهم لم يقدموا ما يكفي وليسوا على المستوى المطلوب.
تذكر أن الكمالية مفتوحة دائمًا على الـ Infinity
ويكون طريق التحرير من هذا التيه هو وضع نموذج عادل ثابت تحاكم به نفسك، كأن تقارن نفسك بمكيال نسخك القديمة مثلاً، أو أن تتعاطف دومًا مع حدود ما تقدمه من استطاعتك القصوى في قفزة من القبول اللا مشروط (Radical Acceptance) بغض النظر عن ما تكونه النتيجة وأن ليس للإنسان إلا ما سعى!
We only responsible for showing up
الكمالية موقف عام من الحياة
الكمالية سرطان متجذر معرفيًا وإدراكيًا لا يقف عند باب واحد، إنما يمتد وينتشر ليحكم كذلك جميع تصورات الإنسان في كل النواحي. الشخص الكمالي ينظر إلى كل ما حوله بعين الكمال والمطلق، فيقيس حياته وعلاقاته وإنجازاته بمعايير لا حدود لها. فهو دائم التطلع إلى ما يتجاوز الجيد والمقبول إنسانيًا، مما يجعله دائم الاضطراب والتقلب مهما بلغت جودة علاقاته أو قيمة إنجازاته. فمع كل نعمة أو إنجاز مستحق للتقدير، يستشعر دائمًا النقص بسخط مكتوم غير منطوق، قد لا يُعبر عنه أحيانًا، متطلعًا إلى ما هو أبعد من حدود المعقول والمتاح.
ومُكلّفُ الأيام ضد طباعها *** مُتطلبٌ في الماء جذوة نار
تكمن خطورة هذا النهج في أنه يجد دائمًا منفذًا للسخط، والقلق، والشكوك، مستنزفًا نفسه والآخرين من حوله بتحديق متكرر في العيوب والنقائص. مدفوعًا بالنصائح الكمالية المتداولة في الواقع والمواقع والسوشيال ميديا عن العلاقات المثالية والشريك المثالي، وتؤججه الأفلام والمرئيات والمسموعات بمنتوجاتها الزائفة التي تقف وراءها شركات الصناعة والتجميل، وخطابات التنمية البشرية التي تشعر الإنسان دائمًا بالعجز والتقصير.
وهذا هو السبب في رأيي لما يتعلق كذلك بقصور الإلتزام ومأزق الإنسان الحداثي في قضية القفز الدائم والتغيير المستمر في العلم والعمل والعلاقات والالتزامات!
«لا أملُّ ثوبي ما وسعني، ولا أملُّ زوجتي ما أحسنت عشرتي، ولا أملُّ دابَّتي ما حَمَلَتْني ؛ إنَّ الملال من سيِّىء الأخلاق»
عمرو بن العاص.
كلمة ختامية
الاستسلام لأصوات الكمالية والاستمرار في مداورتها استنزافٌ لا نهاية له. تكون بداية التعافي بالتصالح مع فكرة المحدودية البشرية، وبتوطين النفس على الرضا بما هو كائن بين يديها. لأن أحيانًا، كل ما ينقص الشخص الكمالي ويحتاجه لتحقيق معادلة تعافيه هو بعض القبول الصحي؛ فمن سخط فله السخط، ومن رضي فله الرضا.
تذكر أن الوقت الذي تقضيه في انتظار الظروف المثالية والمعزوفات الخيالية والكمالية هو وقت ضائع من الحياة، مؤجل ومحسوب عليك. وأخيرًا، لا تنسَ أنك دائمًا ستأخذ أشياء ونتائج وأدوارًا وعلاقات لن تكتمل لك إلا برضاك عنها. أو كما تقول الحكمة الشائعة، أختر الرضا يهن عليك البدء والعبور.
I totally agree cuz two months ago I thought about getting back into a hobby I used to love when I was younger (drawing)
So I started browsing online stores, added colors, canvas, and all the tools to my cart I even watched tutorials, imagined myself painting, planning everything perfectly…
بس تتوقعون رسمت؟ لا
كل اللي سويته إني فكرت والتفكير الزايد عطاني شعور عظيم وكأني بدأت بس الحقيقة إني ما سويت شي
وهذي المشكلة إننا نفكر كثير ونتحمس ونتخيل النتيجة الأخيرة بس ننسى نبدأ خصوصًا إذا كنا نحب الشي مجرد تفكيرنا فيه يخلينا نحس بنشوة الإنجاز ونأجل ونأجل .
لا تغرقون في التفاصيل ولا تستنون كل شي يصير مثالي ابدؤا حتى لو بخطوة بسيطة أنا كنت أهرب من واقعي بتخيل مستقبلي وأحس برضا لكن الحقيقه ان وقتها حياتي كانت واقفه وخيالي هو الي كان يعيش
اول مقاله قرأتها في التطبيق وحرفيًا بداية خير ،مقالة رائعة بكل ما تحملة الكلمة من معنى . اللهم نسألك الرضا التام لكل شيء في حياتنا .